البيت الذي يحضن الذكريات
ذكريات بغداد سامر يقف على الشرفة في الطابق الثاني من منزلهم القديم في حي العامل ببغداد، يتأمل الشارع الذي يعرفه منذ صغره. ذلك البيت يشكل جزءًا من روحه، فقد عاش فيه أجمل سنوات عمره. الهواء يحمل معه أصوات الأذان والمارة، ورائحة الخبز من المخابز القريبة. بالنسبة لسامر، هذا المكان هو المأوى والملاذ. والده، الأستاذ فؤاد، مدرس اللغة العربية، كان معروفًا بطيبته وحكمته في الحي، أما والدته، السيدة ليلى، فكانت حنونة ورقيقة وتملأ البيت دفئًا لا يُوصف.
نشأ سامر مع إخوته الثلاثة: أخوه الأكبر حسين، الذي يُعتبر عمود البيت بعد والده، وأخته زينب، التي كانت بمثابة الأم الثانية له ولإخوته، وأخوه الأصغر علي، الطفل الذي لم يعرف من الحياة إلا اللعب والمرح. تلك العائلة كانت تعيش بهدوء وسلام، كما لو أن بغداد نفسها كانت حضنًا دافئًا يحميهم من قسوة العالم الخارجي.
لكن مع تزايد الأخبار المقلقة عن التوترات الدولية، بدأت شمس بغداد تغرب تدريجيًا. الجميع كان يتحدث عن الغزو القادم، لكن سامر لم يكن يتخيل يومًا أن مدينته الجميلة قد تتغير بهذا الشكل. كان يُحب كل زاوية في هذا الحي، كل شارع فيه قصة، وكل ركن يحمل ذكرى عزيزة.
الغزو على العراق وأصوات الخوف
جاء يوم 20 مارس 2003، اليوم الذي غير كل شيء. السماء كانت مليئة بأصوات الطائرات، ودوي الانفجارات أصبح جزءًا من الحياة اليومية. لم يعد البيت يشعر بالأمان كما كان. رغم ذلك، كانت العائلة تصر على التمسك بالحياة. والدهما يحاول أن يبث فيهم الأمل والطمأنينة قائلاً: “هذه بغداد… عاشت آلاف السنين وستعيش آلافًا أخرى. كل هذا سيمر”.
لكن الحقيقة أشد قسوة. بعد حوالي أربعة أشهر من دخول القوات الأمريكية إلى بغداد، وتحديدًا في إحدى الليالي القاتمة، كانت القوات المحتلة تسير على طريق المطار الشهير. في تلك الليلة، تعرّضت تلك القوات إلى كمين مُحكم نصبه مقاومون عراقيون. ذلك الكمين كان شديد التأثير، فقد قُتل عدد كبير من الجنود الأمريكيين. ورغم أن سامر وعائلته كانوا يعيشون بعيدًا نسبيًا عن تلك المنطقة، إلا أن الأحداث بدأت تتسلل إلى حياتهم.
الانتقام والشوارع التي تنزف
بعد الكمين، تغيرت الأمور بسرعة. الجنود الأمريكيون، المأخوذون بالغضب والخوف، بدأوا في الانتقام من كل من يسكن قرب شارع المطار. لم يكن أحد في أمان. كانوا يقتحمون المنازل، يُفتشون بلا هوادة، ويأخذون من يشكون فيه دون تردد.
عند الفجر، في وقت مبكر، سامر يجلس مع أسرته على مائدة الفطور، سمعوا طرقات عنيفة على الباب. تجمدت العائلة في أماكنهم.
حسين قام ليفتح الباب، لكن والدتهم أوقفته، كانت عيناها مليئتين بالقلق والرعب. “لا تفتح، قد يكونون هم”، قالت بصوت مرتجف.
لكن حسين، بشجاعة تُشبه شجاعة والده، فتح الباب. دخل الجنود دون استئذان، أصواتهم غاضبة وأعينهم مشتعلة. بدأوا في تفتيش المنزل بعنف، وكأنهم يبحثون عن شيء يعرفونه ولا تعرفه العائلة.
“نحن عائلة بسيطة، لا علاقة لنا بما يجري”، قالها حسين بصوت حازم محاولًا التحدث مع أحد الجنود. لكن الجنود لم يُعيروه أي اهتمام. كانوا يتحدثون بلغة لا يفهمونها، ولكن لغة الأسلحة كانت واضحة جدًا.
الفقدان
بعد ساعات طويلة من التوتر، غادر الجنود أخيرًا، لكنهم أخذوا حسين معهم. كان المشهد مروعًا. سامر رأى والدته تسقط على الأرض باكية، وأخته زينب تصرخ في الجنود محاوِلة استعادته. كانت تلك اللحظة بداية النهاية للعائلة التي كان الحب والدفء يملأها يومًا.
الأيام التي تلت كانت مليئة بالخوف والانتظار. كل يوم، كانت العائلة تنتظر عودة حسين، لكن الأيام تحولت إلى أسابيع، والأسابيع إلى شهور، دون أن يسمعوا أي خبر عنه. العائلة باتت مشتتة، والحي الذي كانوا يحبونه تحول إلى سجن مفتوح مليء بالخوف والقلق.
الحياة بعد العاصفة
مرّ العام، ولم تعد بغداد كما كانت. العائلة، التي كانت تجتمع حول مائدة واحدة، بدأت تفقد قوتها. سامر، الذي كان يخطط لمستقبله، لم يعد يرى سوى الظلام أمامه. باتت الحياة تركز على النجاة فقط، ولم يعد هناك مكان للأحلام.
بغداد تغيرت، لكن سامر أدرك أن التغيير لم يكن فقط في المدينة. لقد تغير هو أيضًا، فقد فقد جزءًا من روحه في تلك الليلة التي أخذوا فيها حسين. ورغم الألم، كان عليه أن يمضي قدمًا، أن يحمي والدته وأخاه الصغير، وأن يُحاول إعادة بعض من الحياة التي فقدوها.
وفي يوم من الأيام، وبينما كان سامر يسير في شوارع بغداد التي أصبحت مليئة بالأنقاض، أدرك شيئًا. قد تأخذ الحرب منا الكثير، لكنها لا تستطيع أن تسلبنا الامل والتفائل والذكريات التي نحملها في قلوبنا. تظل بغداد، رغم كل شيء، مدينة الأحلام والذكريات الجميلة. هذه هي ذكريات بغداد